شاءت الأقدار أن تندلع
الانتفاضات العربية خلال فترة من الضياع الفكري و زمن اندحار الأفكار السياسية و
الفلسفية الكبرى التي شكلت إطار النقاش العام خلال القرن الماضي. غير أن احتفاء الكثيرين
بعفوية الانتفاضات العربية و عدم تبنيها لأطر عقائدية و تنظيمية محددة ما لبث أن اصطدم
بعدم قدرة هذه الانتفاضات على حزم الأمور لصالحها رغم الوهن الذي أصاب معظم
الأنظمة و فقدانها الشرعية و الهيبة. أكثر ما يعبر عن حالة الضياع الفكري و السياسي تلك هو عدم تبلور موقف منسجم و
واضح من موضوع التدخل الغربي. من جهة هناك مريدي الحداثة و الاتصال بالغرب الذين
يبدون الحماسة للتدخل بل و يعتبرون أن التدخل الغربي هو مسؤولية أخلاقية. و في
الجهة الأخرى هناك أسرى منطق الهوية الذين يعتبرون إن كل ما يأتي من الغرب هو ملوث
و مشبوه فيأخذ رفضهم للتدخل الغربي شكل الدفاع عن خصوصيات ثقافية عوض أن يكون
موقفا مبدئيا.
المأزق الذي نواجهه نتيجة
لهذا الانقسام يضعنا إمام خيارين سيئين: إما أن نقبل و نعيش منطق الضحية التي
تستجدي العطف و العون و يصبح مصيرها رهنا بمشيئة "المجتمع الدولي" و إما
أن نتقبل منطق نظرية المؤامرة الذي يشكل هو الأخر استسلاما فكريا يعبر عن عدم
قدرتنا على إنتاج خطاب تأويلي و سياسي واضح لأوضاعنا و علاقاتنا بالعالم. كلا هذين
الخيارين لهما دعاتهما و أنصارهما وإن كانت الحدود بينهما مطاطة و غامضة، فنجد أنفسنا
ننتقل من ضفة إلى أخرى طبقا للحالة التي نناقشها. المسالة أن كلا الخيارين يعنيا
التخلي عن قدرتنا على تحديد مصيرنا بقدراتنا الذاتية و يشكلا عوائق نحو أخذنا
لزمام الأمور و تدبير أحوالنا على ما نراه صوابا.
الفكرة الأساسية هنا حق
تقرير المصير. لا معنى لأية ثورة أو انتفاضة إن لم تكن تعبيرا عن هذا الطموح الإنساني الأساسي.
راج مؤخرا شعار "صمتكم يقتلنا" تأييدا للانتفاضة السورية و اعتبر سبيلا
للضغط على المجتمع الدولي لكي يتحرك نجدة
للشعب السوري. في زمن آخر كان هذا الشعار سيعتبر استجداء للعطف فيه الكثير من
الابتزاز المعنوي و الحط من قدرة الشعب السوري على النضال بشكل مستقل. لكن في زمن الإفلاس
الفكري الذي نعيشه يصبح هذا الاستجداء مقبولا. لا مفر من الاعتراف بان القدرة على
لعب دور الضحية أضحت مرادفة لشرعية النضال السياسي.
لكن هذا التطور يشكل انقلاب
خطير على مفهوم التحرر الذي ارتبط لزمن طويل بمفهوم واضح للنضال المباشر و قدرة
المجموعات و الأمم على انتزاع حقوقها بنفسها و بإراداتها الذاتية. لا احد يدافع عن
هذا المنطق اليوم. لقد تم التخلي بشكل شبه كامل عن مفهوم الذات المستقلة الفاعلة.
المفارقة المأسوية بالنسبة للانتفاضات العربية أن تتزامن شراراتها مع هذا التحول
الفلسفي الذي استبدل صورة المناضل بصورة الضحية. إن شئنا أن نفهم العقبة التي
تعترض الانتفاضات العربية اليوم علينا أن نعي خطورة هذا الانقلاب و مفاعيله. و
تاليا علينا إعادة اكتشاف الفكر التحرري بشكله الأوسع.
نعود هنا إلى مأزق
الهوية: أدى فشل الأفكار الحداثية عالميا و الذي تزامن مع نهاية الحرب الباردة إلى
رواج مفاهيم الانتماء و الهويات الثقافية. العودة إلى العروبة و الهوية العربية اليوم لا علاقة لها بما مثلته العروبة في عصر التحرر،
على العكس أصبحت شكلا من أشكال الدفاع عن الخصوصيات ثقافية. أدى ذلك، في ما أدى، إلى
وهن العلاقة بمفاهيم التحرر الواسعة و التي لطالما استمدت أفكارها من ارث التنوير
و نتاجه الفكري الذي، شئنا أم أبينا، انطلق من الغرب. لم تمنع هذه النشأة الغربية
للفكر التحرري من التمدد بطموح كوني لكي يعم بشكل واسع و يصبح مصدر الوحي لحركات
التحرر. لكن التفاؤل الذي طبع تلك المرحلة تبدد تحت وطأة هزائم و خيبات متتالية.
لكن دعاة الهوية اليوم ينحون
نحو رفض النتاج الفكري الغربي بوصفه نوعا من الهيمنة المعرفية. وهنا يشتد المأزق
الذي نواجهه اليوم في رفضنا للتدخل الخارجي: من يرفض هذا التدخل تحكمه عدائية غير عقلانية
للغرب بمجمله و يعجز عن التمييز بين الأفكار التحررية و الأنظمة الغربية التي قطعا
لا تمثل هذا الفكر. المفارقة أن من يؤيدون التدخل يعانون من الالتباس نفسه فيعتبرون
أن استنجاد التدخل الغربي هو امتداد لتوقهم إلى الاتصال بالحداثة.
اتجاهان خاطئان و تناقض
ملتبس. عندما اعترض على التدخل الغربي لا اعتبر ذلك عداءا حضاريا للغرب، على العكس
هو اقتناع بقيم إنسانية و كونية نشا الكثير منها في الغرب. عندما أدافع عن حق
تقرير المصير لا أجد أفضل من جون ستيوارت ميل كأساس فلسفي مثلا. علينا أن نعي أن
الخيار الذي يقدم لنا هو خيار زائف: نحن لا نختار بين معاداة الغرب أو مهادنته بل ندافع
عن حق تقرير المصير الذي يجب أن يشكل صلب أية انتفاضة. الخيار بين لعب دور الضحية
و سجن الهوية هو خيار بين نوعين مختلفين من إلغاء الذات الثورية.
well said!
ReplyDeletethx